خادمات بلا قوانين - نوع جديد من الرق في لبنان؟
آب 24, 2011
24.08.2011
تعاني الخادمات الأجنبيات اللاتي يعشن في لبنان من ظروف عمل غير إنسانية في معظم الأحوال، فهن يتعرضن لإساءات نفسية وجسدية واقتصادية. الناشطون في مجال حقوق الإنسان يسعون لتغيير "الواقع المأساوي" لهؤلاء العاملات.
يعيش في لبنان ما يقارب الـ 200 ألف عاملة منزلية أجنبية، معظمهن ينحدرن من دول إفريقية وآسيوية على غرار أثيوبيا وبنغلادش ونيبال وسيريلانكا والفليبين. ويتم استقدام العاملات الأجنبيات من قبل وكالات خاصة للعمل في لبنان كخادمات في البيوت أو كعاملات تنظيف في المطاعم، في ظل ظروف صعبة تعرضهن لـ"باقة" من الإساءات النفسية والجسدية والاقتصادية وفي ظل وضعهن في خانة الفئة الأخيرة في قانون العمل اللبناني الذي يقسم اليد العاملة الأجنبية إلى عدة فئات أولى وثانية وثالثة.
العاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية أو "الفئات المهمشة" تعتبرن فريسة سهلة للاعتداء بكافة أنواعه، وهن بلا حماية وبلا رادع قانوني أو إنساني في بعض الأحيان، لتختصر حياة الخادمة الأجنبية في بعض المنازل اللبنانية بـ"الواقع المأساوي" منذ لحظة وصولها إلى أرض المطار وحتى المغادرة منه إلى بلادها الآمنة أو الانتحار من شرفة المنزل الذي تعمل فيه.
معاناة يومية
عندما أتت "سوماترا" وهي سيريلانكية الأصل للعمل في لبنان لم تكن تعرف ما ينتظرها في هذه الغربة البعيدة. جاءت بثياب حريرية زهرية اللون كانت والدتها قد خاطتها لها هدية جراء الهجرة من بلدها لإعالة عائلتها. ما زالت تحتفظ بذلك الثوب المزركش بورود صفراء في علبة كرتونية وضعت على شرفة المطبخ. الثوب نفسه سترتديه لدى لقاء عائلتها على أرض المطار في سيريلانكا عند انتهاء مدة عقدها، لأنه سيذكرها بفرح وبراءة افتقدتهما لسنوات طويلة عاشتها في لبنان.
اليوم لا يحق لـ"سوماترا" أن تغطي جسدها النحيل الداكن البشرة بألوان زاهية كتلك التي اعتادت الركض بها في الحقول الخضراء أمام منزلها البعيد، فليس مسموح لها سوى ارتداء الزي المخصص للخدم ذي اللونين الكحلي والرمادي. باتت تنسى كيفية النظر إلى المرآة. تبدو مقتنعة بـ "صورة الخادمة"، فالمرآة رفاهية موجودة فقط في منزلها الدافئ هناك، والأهم هو العمل الذي تقدمه لمخدومتها. "أنا نو مبسوطة" تقول "سوماترا" بلكنة عربية وانكليزية (أنا لست سعيدة). لكن ذلك أيضاً ليس الأولوية. فهي أتت لهدف محدد: العمل لجمع المال. أما السعادة، فهي مشروع مؤجل أو حلم تتوق إليه ما أن تطأ قدماها من جديد أرضها البعيدة.
تدندن "سوماترا" وهي تغسل الصحون أغنيات هامسة بلغتها الأم أو تتلصص من شرفة المطبخ لتحكي همساً وبالإشارات مع رفيقتها من الجنسية نفسها والتي تعمل في المبنى المقابل، هذا يشكل صمام أمان لديها كي لا تنسى لغتها الأم. تنقل عن رفيقتها مأساتها بكلمات ركيكة تعبر عن وجعها "مدام نو منيح.. نو أكل منيح، نو نوم منيح بس شغل..حرام نحنا كمان إنسان" (السيدة ليست جيدة.. والطعام ليس كافي.. والنوم أيضا.. فقط العمل.. حرام فنحن أيضا بشر) بهذه الكلمات الركيكة تعبر عن وجع صديقتها وعن النظرة الاستعلائية التي يعامل بها بعض اللبنانيون الخادمات في منازلهم. و"سوماترا" تعتبر أفضل حالا منها بقليل، فهي تحاول تلبية كل الأوامر "حتى مستر انا نو ضربي" (كي لا يضربني السيد). صديقة أخرى لها حاولت مرة الانتحار من على الشرفة المقابلة أمام نظرها بعد أن باتت الحياة مع مخدوميها عبارة عن عذاب لا يطاق، صدمت سوماترا، بدأت بالصراخ عاليا، حتى تجمع الجيران في الشارع. لم تنتحر الصديقة، لكنها أخذت إلى مركز الشرطة ولم تعد "سوماترا" تعرف عنها شيئا.
خادمة تنتحر أسبوعيا في لبنان
عاملتان قادمتان من بانغلادش
تقول رئيسة التجمع النسائي اللبناني جومانة مرعي، إن لبنان يعتبر من البلدان العربية التي تحتوي على نسبة عنف كبيرة تجاه العاملات الأجنبيات في المنازل. وتقسّم الإساءات اللواتي يتعرضن لها إلى "اقتصادية" تتمثل بعدم دفع رواتبهن، سواء في الوقت المحدد أو بالكامل، و"نفسية" تتجلى في منع عاملة المنزل من الاتصال بعائلتها أو تقييد حركتها في أوقات فراغها، وعدم إعطائها إجازة أسبوعية ودوام عمل بساعات محددة، و"لفظية" من خلال استخدام الألفاظ المهينة و"جسدية" تمارس عليها من خلال الضرب و"جنسية" في بعض الأحيان إضافة إلى قانونية بحجز جواز سفرها. وتطالب الجمعيات النسائية بحسب مرعي بإلغاء نظام الكفيل وإعادة الدور المحدد في القانون للمؤسسة الوطنية كجهة حصرية في دخول العاملين الأجانب الى لبنان وتفعيل دورها وإلغاء المؤسسات التجارية المنتشرة في مجال الاستخدام، وشمول أحكام قانون العمل لهذه الفئة من العمال واستحداث فصل خاص يرعى حقوقهم ويحدد صراحة واجبات كل من طرفي عقد العمل، ومكافحة ومعاقبة الاتجار بالبشر.
وقد صدرت تقارير عدة في السنوات الماضية ومنها تقارير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" تشير إلى حوادث تتعرض لها العاملات الأجنبيات في المنازل وتؤدي إلى الموت ومعظمها الانتحار من طوابق مرتفعة. وفي إحدى هذه التقارير قالت المنظمة إن هناك أكثر من عاملة أجنبية تلقى حتفها أسبوعياً في لبنان. كما سجّلت تقارير الشرطة اللبنانية أربعين حالة انتحار لعاملات أجنبيات، خلال العام الماضي وحده، وسجّلت أربعاً وعشرين حالة وفاة بسبب السقوط من أماكن شاهقة، وحالتي وفاة بسبب الضرب المؤدي إلى الموت.
وتجد مرعي أن ثقافة عدم المحاسبة وعدم وجود قانون واضح للعاملات الأجنبيات يشكلان سبباً في ارتفاع حالات الإساءة على هذه الفئات المهمشة.
وتشير منى وهي تعمل في إحدى مكاتب استقدام الخدم إلى "أن معظم الوكالات صارت تتجنّب استقدام عاملات من سريلانكا نظرا إلى التشديد الذي تفرضه السفارة السريلانكية في لبنان على شروط عقد العمل الذي يوقّع من خلالها لتبقى على تواصل دائم مع مواطناتها للوقوف على أي مشكلة تتعرّضن لها بعد حالات الوفاة الكثيرة. وتضيف أن المدخول الشهري للعاملات الأجنبيات في لبنان يتراوح بين 125 دولار إلى 200 دولار شهريا بحسب الجنسية التي تنتمي إليها العاملة.
سياسات حكومية لمعالجة مسائل التمييز
روكسانا هي فتاة من بنغلادش أتت إلى لبنان منذ سنتين. لم يمر على عملها في بيت مخدوميها سنة واحدة حتى هربت ليلا بالقفز من شرفة الطابق الأول بعد الاستعانة ببعض الملاءات التي ربطتها مع بعضها لتشكل حبلا طويلا. "مدام ضربي أنا كتير" (السيدة تضربني كثيرا) تقول روكسانا بلغة عربية ركيكة وتتابع "أنا شغل كلو نهار وكلو ليل بس نام 4 ساعة" (أعمل ليلا نهارا ولا أنام سوى أربع ساعات).. ما زالت روكسانا الآن في لبنان تعمل لحسابها الخاص في تنظيف المنازل. تعمل ثمانية ساعات في النهار مقابل 4 دولارات في الساعة. "هيك أنا غود" (هكذا أفضل لي) تقول راضية بعملها بعد أن وجدت وقتا للراحة ودخل شهري أكبر من مدخولها السابق لدى مخدوميها. لكن يبقى هاجسها الأساسي والخوف الذي يسيطر عليها كلما مشت في الشارع، إلقاء القبض عليها بسبب احتفاظ مخدوميها السابقين بالأوراق الرسمية وعدم حصولها على أوراق رسمية من الأمن العام.
من جهته يقول المحامي نبيل الحلبي عضو المؤسسة اللبنانية للديمقراطية وحقوق الإنسان إن "القوانين في لبنان لا تعطي عاملات الخدمة المنزلية حقوقاً كما لبقية العاملين لأنهم يعتبرون خدماً لا عمال" ويضيف إن "العاملات يخضعن لنظام الكفالة الذي ينص على وجوب أن يحصلن على كفيل طيلة فترة عقودهن، وبهذا يكن أسيرات مستخدميهن وضحايا سوء المعاملة".
ورغم صدور عقد نموذجي موحد في عام 2009 عن وزارة العمل يضع معايير جديدة متقدمة لاستخدام العاملات الأجنبيات، فإن التدابير تبقى حبراً على ورق، طالما أن الحكومة اللبنانية لم تعين مفتشي عمل لضمان الالتزام بالقواعد الجديدة.
ويرى حلبي في مشروع القانون الذي اقترحه وزير العمل السابق بطرس حرب "تنظيم العمل اللائق للعاملين في الخدمة المنزلية" نافذة أمل، المشروع أتى نتيجة مطالبات الجمعيات الأهلية بتحسين ظروف عيش العاملات المنزليات، "إذا صدر القانون فإنه سيحرر العاملات من الاستغلال عبر تحديد ساعات العمل ومنحنهن يوما للراحة أسبوعيا". وطالب بوضع سياسات حكومية فعالة لترسيخ الإطار القانوني وآليات إنفاذ القانون ومعالجة مسائل التمييز بالشكل المناسب.
دارين العمري - بيروت